بقلم : الأستاذ الدكتور حيدار ناصر
الرئيس العام للجمعية المحمدية
ومن قال أن الإحسان أمر سهل؟ لأنّ مقدار الإجسان له نطاق واسع. من السهولة إلى الصعوبة. إذا استخدمنا مقياسًا من 1 إلى 10. فإنّ أهم الأشياء القيام بأصغر أعمال الخير قبل القيام بأكبر منها. كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ” إذا قامت الساعةُ وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها”.
وإن أذنب أحد مثل العاهرة التي ضمن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدخل الجنة. بسبب تقديمها ماء لكلب كان على وشك الموت من العطش. وقد رويت هذه القصة في روايتن, في صحيح مسلم والبخاري عن أبي هريرة. كأنّ الأمر بسيطًا ومثيرًا ولكنه مليئ بالمعانى.
فافعل كل شيء بنوايا صادقة. أما أمر الجزاء لله المالك القهار وليس شأن النّاس. وقال سبحانه “فلا تزكوا أنفسكم إنّه أعلم بمن اتّقى” (سورة النجم: 32). فما على الناس أن يتكبّر ويشعر بأنّه أقوى .
مفتاح الإحسان
الإحسان من أفضل أعمال العباد, ونور من أنوار الله سبحانه. “فالإحسان خصلة محمودة، صفة الأنبياء والرسل، وخصلة عباد الله المخلصين في العمل الصالح” كما كتبه فالح بن محمد الشقير. ويمكن القيام بأعمال الخير بأي شكل من الأشكال، من الأشياء الصغيرة إلى الجهود المبذولة لتحسين جودة الحياة في جميع الجوانب لمصالح الناس والبيئة الطبيعية.
ومفتاح إدارة هذا العالم هو الإحسان. فافعلوا الخير في الأرض خفافاً أوثقالاً مع عدم الإفساد في الأرض. وهذا هو المبدأ وأحسن السبل للمؤمنين في الحياة الدنيا، كما قال الله تعالى “وَابْتَغِ فِيْمَآ اٰتٰىكَ اللّٰهُ الدَّارَ الْاٰخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيْبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَاَحْسِنْ كَمَآ اَحْسَنَ اللّٰهُ اِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الْاَرْضِ إِنَّ اللّٰهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِيْنَ” (سورة القصص 77).
لا تبتعد عن الدنيا, ولا تحرّمها بدليل لأنّ بعض الناس أفسدوا فيها. وقال جلال الدين الرومي أنّ الأتقياء المتوقفين في الدنيا, فلا تلوموا سيطرة الظالمين فيها. فإذا أفسد الآخرون على الأرض، فإن المسلمين يُحسنون بإصلاح هذا الأرض دون تدمير والإفساد.
ولا تفرطوا في إدارة الدنيا لأنّها متاع الغرور وهي مدار اللعبة لا بدّ التعامل معه بعناية. فأمّا الكفار والظالمون يحبون أن يتجاوزوا حدودهم في هذه الحياة الدنيا. ولا يؤمنون بيوم الأخر وقال الله :فَأَيْنَ تَجَاهَبُونَ ( التكوير: 26). ماذا تريد وأين تذهب في هذه الحياة؟ إنّ الأعمال الهدّامة على الأرض لا يقوم بها إلا أولئك الذين لديهم روح الإنكار و الظلم.
ومفتاح الإحسان و الأعمال الخيرية هو الجهد مع الإخلاص والصبر. حيث قال : اَمْ حَسِبْتُمْ اَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّٰهُ الَّذِيْنَ جَاهَدُوْا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصّٰبِرِيْنَ (آل عمران : 142).
لأنّه كثير من الخطوات الإيجابية تواجه التحديات الصعبة . فكلّ جهود تحتاج إلى وقت. وبعض المحاولات تواجه الصعوبة الفشل. لن ينجح أي صراع بسرعة وبشكل تلقائي. وليس من غير المألوف أن تواجه هذه الجهود الصعوبات والفشل. وإن لم تنجح بالكامل أهّم الشيء هو محاولات الإصلاح. كما قال قاعدة الأصول “ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه”.
فحياة المسلم لا بدّ أن تكون كاملة في الأعمال الصالحة. في كل من فعل الإحسان ومنع المفسدات أو الشرور، هناك حاجة إلى جهود مثالية متواصلة. الاستمرار في الأعمال جماعياً ومنتظماً. ولا داعي لأن ينكر المسلمون بعضهم بعضاً في الأعمال الصالحة. المبادئ والأهداف واحدة وهي بناء حياة سعيدة ومنع المفسدات، لكن الطرق والمسارات قد تختلف. ولا بد من روح منفتحة ومتسامحة في اتخاذ خطوات مختلفة.
و بتفاؤل المسلم لله بجدية، وستفتح لهم طرق وبركات كثيرة لتحقيق النجاح (العنكبوت: 169). لو كانت كل أمور الحياة سهلة وتتوافق مع رغبات الناس هذا هو آمال الجميع. لكن بقدر الله أن يكون هناك الصالحين والطالحين، ناجحين أو فاشلين أو متأخرين. فواجهوا تغيّرات الحياة بحسن العبادة ونفذوا الأمانة بإخلاص وإصرار وصلابة وصبر وقلب منفتح. وهذا هو مذهب الانشراح كما قال تعالى: “إنّ مع العسر يسرا. إن مع العسر يسرا.” (سورة الإنشراح: 5-6).
الحياة هي دعوة إلى الخير فافعل الخير في حياتك كلها، من صغيرها إلى كبيرها. وحتى لو تم القيام بالأعمال الصالحة على النحو الأمثل، فستكون هناك أخطاء. مثل الأشخاص الذين يعملون، مهما كانوا عظماء، هناك دائمًا عيوب في أعمالهم. الملائكة فقط لا يخطئون أبدًا. فأمّا أولئك الذين يحبّون البحث عن عيوب النّاس لهم الحياة في هذه الدنيا مظلمة. إذا كنت تريد أن تبدو نظيفًا بابتعاد الأمور الدنيوية، فكل شيء ممكن ولكنه لا يقدم حلاً. على المؤمنين أن يقوموا بالإحسان على النحو الأمثل دون الحاجة إلى الشعور بأنّهم أتقى الناس وأحسنهم.
الحفاظ على الإحسان
فهل ما زال من المفيد الإحسان في ظل حياة مليئة بالسخرية والمشاكل المعقدة؟ انظر إلى الواقع. ولا يزال الفساد منتشرا على نطاق واسع إنّ عدم المساواة الاجتماعية أمر واقع وكان حكم الأقلية موجودة في أنحاء البلاد وتضخم الدين الوطني. وهناك قضايا أخرى مختلفة. تعاني إندونيسيا من مشاكل لا نهاية لها.
هناك بالفعل الكثير من السخرية في العالم وسط الحياة الحرة والمادية والرأسمالية والممتعة اليوم. إنّ المشاكل التي تطرحها الحياة الليبرالية العلمانية في الشبكة الحالية للرأسمالية العالمية هي في الواقع كبيرة ومليئة بالمفسدات. مثل جوجيرنوت, القطار العملاق الذي يسحق أي شخص على طريق الحياة العالمية الحديثة، كما يكتب أنتوني جيدينز.
إذا فكرنا في كل التناقضات الموجودة في هذه الدنيا، فقد تصل إلى طريق مسدود. وفي عام 1998، اختارت إندونيسيا طريق الإصلاح من أجل الابتعاد عن النظام الاستبدادي. لكنّ الإصلاح لا يخلو من مشاكل كبيرة. أصبحت الأنظمة السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية وغيرها من مجالات الحياة ليبرالية وعلمانية بشكل متزايد. ينتشر الفساد بشكل متزايد بأشكال مختلفة. تقوم حكم الأقلّية السياسية والاقتصادية بإرهاب وتسيطر على كافة المجالات، بما في ذلك السيطرة على الثروات الطبيعية مع تأثير الأضرار البيئية. أصبحت السياسات المالية وسياسات المعاملات حرة بشكل متزايد. هناك قوانين مختلفة تثير المشاكل. يحدث الانحراف السياسي في العديد من هياكل الدولة وأنشطتها. وتنتشر الصراعات الاجتماعية الأفقية والرأسية على نطاق واسع. كانت أعمال الشغب التي اندلعت في شهر مايو في جاكرتا و في بوسو و في أمبون وبابوا بمثابة حوادث مظلمة. لقد أصبحت أرواح الآلاف من البشر الأبرياء مأساة مريرة في هذه الجمهورية.
فالانتخابات لا تنتج قادة مثاليين في خضم التنفيذ الفوضوي. حتى أن انتخابات 2019 و2024. توفّي 894 و181 عضوًا في الموظّفين في شؤون الانتخاب. وتفاقمت الانقسامات السياسية. أصبحت حريات الناس مفتوحة بشكل متزايد لدرجة أن مجموعات من المخالفين في الجنس تطالب بحقوق دستورية للعيش في هذا البلد الديني والملتزم بالمبادئ الخمسة / بنشاسيلا. بدأت تظهر مجموعات تدعي أنها لا دينية ملحدين ومعادية لله. أصبح عالم وسائل التواصل الاجتماعي مفسد بشكل متزايد بالمخدرات. و إنّ وسائل الإعلام تخدم أصحاب رؤوس الأموال. هل ينبغي لساعة الإصلاح والنظام الدستوري الإندونيسي أن تتوقف أو تتراجع؟ من المسؤول عن هذه المأساة الوطنية؟
فإذا كان النهج متشائماً ومطلقاً تماماً، فلن تكون هناك فرص إيجابية، سواء لفعل الخير أو التفكير في الشر. النهي عن المنكرات له نفس النتائج أيضًا. بغض النظر عن مدى سرعة صراخك أو خطوتك، فإنّ المشكلة تلو الأخرى لا تزال موجودة في الحياة. دائمًا ما تواجه الأمور العائلية على أصغر المستويات مشاكل، خاصة فيما يتعلق بالحياة الوطنية وعالم الإنسانية المعقد. لذلك، لا تتوقف وتستسلم بسهولة لنشر القيم الإسلامية ولو بإزالة الأشواك في الطريق.
الحياة مليئة بالألوان والتغيرات بين الصواب والخطأ، والخير والشر، وغيرها من المفارقات. لا تمل من فعل الخير أو الأفكار الشريرة. وإذا كان الإحسان سهلا وبدون عوائق، فهو ليس من سنة الله. فمجرد فعل الخير لا يعني بالضرورة حسن الاستجابة والقبول. ازرع الثقة، إذا فعلت الخير بإخلاص، واستمر في فعل الخير، فلن تسوء الأمور. ويؤكد الله للمؤمنين: إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وَإِنْ أسأتم فلها. (الإسراء: 7).
بناء التفاؤل المصحوب بالجهود المثلى في عمل الخير. لا تنشروا الضغط والقلق والتهديدات والتعقيدات الطويلة التي تجعل المؤمنين مليئين بالصعوبات وضيقي الأفق ويائسين. في الجهود نحو فعل الخير أو منع الشر، غالبًا ما يواجه المرء مسارات شديدة الانحدار. ولكن عشها بصدق وحكمة دون غطرسة. علاوة على ذلك، كل شيء متشائم ويائس، وينشر الحزن الذي لا نهاية له. وكأن العالم كله مظلم!
القيام بأعمال الخير من جميع الأبواب والطرق وفقا لروح التعاليم الإسلامية. لا تنكروا أعمال الإحسان أو تستهينوا بها، فقط لأن المشاكل لا تهدأ في الحياة. ولا داعي لمطالبة الآخرين بإقناع أنفسهم بكل الخيرات، لمجرد أن هناك عوائق ومستحيلات. إذا أردت أن تفعل الخير، فافعله بناءً على إيمانك الصادق بنفسك ودعوتك. لا حاجة لضمان شخص آخر. إذا كنت لا ترغب في المشاركة، فابتعد عن التكبر كما لو كنت أنت والطريق الذي تسلكه هو الأفضل. كن في الوسط، لا تبالغ في أعمالك الصالحة أو النهي عن المنكرات.
حقق دعوة الإحسان حسب قدرتك. حيث قال “لا يوكل الله نفسه إلا وسعها” لا تستسلم أبدًا وتثبط عزيمتك بسهولة. مع تجنب عادة الحكم والتجديف على الآخرين الذين لديهم مسارات مختلفة في القيام بالخيرات. فعل الخير في كل مكان وزمان بإخلاص القلوب لفضل الله. وأما النتائج والمكافآت فاتركها بالكامل لله الرحمن الرحيم. وقال تعالى وَاِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللّٰهَ وَرَسُوْلَه وَالدَّارَ الْاٰخِرَةَ فَاِنَّ اللّٰهَ اَعَدَّ لِلْمُحْسِنٰتِ مِنْكُنَّ اَجْرًا عَظِيْمًا ( الأحزاب: 29). استمر في فعل الإحسان، حتى في وسط عالم مليء بالسخرية!
سبق نشر هذا المقال في جريدة “ريبابليكا” يوم السبت (3/8).
Discussion about this post