بقلم : أ.د./ حيدر ناصر
الرئيس العام للجمعية المحمدية
يصادف اليوم الذكرى الثمانين لاستقلال إندونيسيا قرأ سوكارنو ومحمد هاتا ممثلا الشعب الإندونيسي إعلان الاستقلال في 17 أغسطس 1945. بالنسبة لنا اليوم تبدو لحظة استقلال إندونيسيا كأنّها عادية. وأنها مجرد لمحة سريعة عن ثمانية عقود من التاريخ. قد يبتهج البعض فرحًا لا معنى له.
الحمد لله على مدار ثمانين عامًا من استقلال إندونيسيا شهدنا تقدمًا كبيرًا في مختلف مجالات الحياة. منها التعليم والصحة والشؤون الاجتماعية والسياسة والاقتصاد والحياة الدينية وغيرها من جوانب الحياة. تُبشّر بأمل كبير لمستقبل إندونيسيا. وفي نفس الوقت لم يزال العديد من النخب والشخصيات الوطنية ملتزمة ومتفانية بقيادة إندونيسيا نحو تحقيق أهدافها. ينمو جيل الشباب كمستقبل هذه الدولة ويتطورون ليصبحوا كوادر بشرية ستحمل راية نضال إندونيسيا في عصر ما بعد الحداثة الجديد في القرن العشرين المليء بالتعقيد في جميع مناحي الحياة. فلا شك أن الجميع يدركون تمامًا المعنى النبيل لاستقلال إندونيسيا باعتباره ركيزةً أساسيةً لتحقيق المُثُل كما رسمها مؤسسو الدولة.
إن الإرادة السياسية للرئيس برابوو سوبيانتو جديرة بالثناء إذ اتخذ خطواتٍ وسياساتٍ جريئةً لتنظيم الحكومة بما يضمن الحوكمة الرشيدة وتجنب الهدر والفساد والتركيز على تنمية الموارد البشرية المتميزة وتشجيع الشركات الكبرى سياسيًا على الاهتمام بالوطن ودعم عامة الناس دعمًا كاملًا ودعم السيادة الوطنية وتنفيذ إنجازاتٍ سياسيةٍ أخرى قائمة على مبدأ “القيمة الحقيقية الواحدة”.
ومن المتوقع أن تُنهض هذه الإرادة السياسية للرئيس وخطواته السياسية الطريق نحو تحقيق إندونيسيا موحدةً ذات سيادة ومزدهرة. والأهم من ذلك أنها ستعطي آثار كثيرة لجميع الوزارات والمؤسسات الحكومية المعنية وصولًا إلى المستوى الإقليمي بحيث يُمهّد إيقاعٌ موحدٌ الطريق ويمنح أملًا جديدًا لمستقبلٍ أكثر تقدمًا لإندونيسيا بعد 80 عامًا من الاستقلال.
مع ذلك في جانب بينما نحتفل اليوم باستقلال إندونيسيا لا يُدرك بعض أبناء الأمة تمامًا أهمية هذا الاستقلال وكأن لحظة الاستقلال قد انقضت دون معنى أو روح. على الرغم من التقدم الكبير الذي شهدته حياة الأمة والدولة الإندونيسية يُظهر الواقع وجود مشهد غامض داخل الشعب والدولة ألا وهو وقوع انتهاكات تُشكل مشاكل وتحديات لمستقبل إندونيسيا.
حين تحدث انتهاكات مُختلفة في ممارسات الشعب والدولة تُمثل 80 عامًا من استقلال إندونيسيا مفارقة استثنائية. فبدلًا من شكر الله تعالى على نعمة الاستقلال وتقدير النضال النبيل الذي خاضه جميع الإندونيسيين في سبيل هذا الاستقلال نجد ممارسات مضللة وانتهازية في إدارة الشعب والدولة مما تسبب في معاناة إندونيسيا.
غالبًا ما تنبع معاناة إندونيسيا من رغبات مُفرطة لأفراد غير مسؤولين في شؤونهم الوطنية. إنهم ببساطة يريدون التمتع بثمار الاستقلال دون الوعي بالمسؤولية تجاه خدمة الدولة والشعب بكل إخلاص. إنهم يظنون كأن إندونيسيا ملك لهم وأنهم قادرون على فعل أي شيء لتحقيق فوائد لا مثيل لها.
فالفساد وإساءة استخدام السلطة والطغيان السياسي والاقتصادي واستغلال الموارد الطبيعية ومنح امتيازات لأطراف أجنبية تضر بمصالح البلاد وتبديد أموال الدولة والسماح بتفاقم التفاوت الاجتماعي والفقر وتطبيق سياسات تضر بمصالح الشعب وتقمعها كلها مفارقات مريرة للاستقلال.
قبل السنوات الطويلة كان نضال شعب إندونيسيا نحو الحرية في بلدنا الحبيب من أجل استقلالها مؤلمًا للغاية. لمئات السنين خضع الأرخبيل الإندونيسي للاحتلال من قبل البرتغاليين والهولنديين والبريطانيين واليابانيين وكانت هولندا أقدم قوة احتلالية في وطننا الحبيب. في الواقع عانى الشعب الإندونيسي معاناةً بالغة. ضحى الشعب بتضحيات لا تُحصى من الثروة والقوة البدنية والنفسية بل وحتى بالأرواح على مر القرون. وبسبب جشع المحتلين حتى بعد استقلال إندونيسيا واصلوا سعيهم لإعادة احتلالها من خلال عدوانين متهورين.
يصوّر إدوارد دويس ديكر المعروف باسم مولتاتولي في رواية “ماكس هافلار” أنّ الضرر الجسيم بسبب الاحتلال في إندونيسيا. فقد أدى نظام الزراعة القسرية وفساد المسؤولين المحليين والهولنديين إلى الفقر والجوع ومعاناة لا تنتهي للشعب. والأسوأ من ذلك أن السكان الأصليين صُوّروا بصورة سلبية بينما بدا المستعمرون أقوياء وذوي نفوذ. وفي خضم المعاملة الوحشية التي تلقاها المحتلون .
في العديد من المناطق كان هناك ملوك انتهازيون ومسؤولون محليون انحازوا إلى المحتلين لتحقيق مكاسب قصيرة الأجل في خضم معاناة شعبهم. وأصبحت سياسة “فرّق تسد” أقوى سلاح احتلالي في تقسيم الشعب مما أدى إلى تضعيف الشعب مما جعل مُثُل الاستقلال أبعد ما تكون.
التأملات والوصايا لولاة الأمور
جاء استقلال إندونيسيا بعد كفاح طويل محفوف بالتضحيات من قِبل جميع الشعب الإندونيسي الحبيب. خاضت ممالك ومجموعات مختلفة في الماضي مقاومة ضارية ضد المحتلين. في بداية القرن العشرين دخل النضال من أجل الاستقلال مرحلة جديدة بنظام تنظيمي حديث. كما ظهرت حركة صحوة وطنية تميزت بتأسيس الاتحاد التجاري الإسلامي، و منظمة بودي أويتومو وشريكات إسلام و الجمعية المحمدية وجمعية تامان سيسوا للتعليم و جمعية الإرشاد والجمعية العائشية وجمعية الاتحاد الإسلامي وجمعية نهضة العلماء وغيرها من المنظمات الملتزمة بالهدف المشترك المتمثل في إندونيسيا المستقلة. لقد رسّخ مؤتمر الشباب الإندونيسي ومؤتمر النساء عام ١٩٢٨ هذا الإنجاز التاريخي المهم لاستقلال إندونيسيا.
فينبغي على أي شخص من أي فئة مُنحت تفويضًا شعبيًا لحكم جمهورية إندونيسيا أن يكون على دراية تامة بالتاريخ المرير والنضالات المتشابكة للشعب الإندونيسي التي أثمرت استقلال إندونيسيا التاريخي عام ١٩٤٥. فعلى النخب الحكومية بما في ذلك السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية والقوات المسلحة الوطنية الإندونيسية والشرطة الوطنية الإندونيسية والمؤسسات الحكومية الأخرى بالإضافة إلى الأحزاب السياسية و جميع المنظمات أن تعمل معًا.
فعلى الجميع أن يحذوا حذو المقاتلين ومؤسسي دولة جمهورية إندونيسيا الموحدة. كيف يُمكننا مواصلة الإرث الذهبي لبطال الدولة الذين ضحوا كثيرا دون انتظار أي مقابل من أجل استقلال إندونيسيا؟
إلى جميع النخب وأبناء الأمة أينما كانوا فلنكرس أنفسنا بكل إخلاص لبناء إندونيسيا المستقلة نحو أمة حرة وموحدة وذات سيادة وعادلة ومزدهرة كما أراد بها مؤسسوها. فلنجعل “إندونيسيا متحدة وذات سيادة ومزدهرة و ومتقدمة” شعارًا لذكرى يوم الاستقلال الثمانين لهذا العام. حتى يصبح استقلال إندونيسيا حقيقة واقعة ويجلب المجد لإندونيسيا.
وعلى جميع كبار المسؤولين في جميع أنحاء الهيكل الحكومي وليكن استقلال إندونيسيا تكليفًا بالعمل بكل إخلاص في تنفيذ ما نص عليه الدستور. احمِ الأمة الإندونيسية بأكملها ووطنها الأم بمسؤولية العطاء لا الطلب. عزز الرفاه العام وخاصةً لعامة الناس الذين غالبًا ما يتعرضون للتهميش. ثقّف الأمة لتتقدم إندونيسيا على الساحة العالمية. شاركوا بفعالية في إرساء نظام عالمي قائم على الاستقلال والسلام الدائم والعدالة الاجتماعية بما يضمن احترام إندونيسيا دوليًا.
اجعلوا من التفويض الدستوري المعيار الأساسي لإدارة الحكومة. ارتقوا بالشعب الإندونيسي نحو حياة أفضل. تمسكوا بالقانون لتحقيق عدالة حقيقية بحيث يشعر بها المجتمع بأسره وليس مجرد قانون لفظي وإداري مما يفتح الباب غالبًا للتمييز وتسييس القانون. لا تُثقلوا أهل هذا البلد بضرائب وسياسات رأسمالية تُثقل كاهل الشعب وتتعارض مع روح بانشاسيلا والمُثُل النبيلة لمؤسسي إندونيسيا.
تمسكوا بالسيادة الإندونيسية القائمة على الدستور وروح نضال الشعب الدامي ضد الاستعمار. احموا كرامة الدولة والأمة من جميع أشكال الضرر سواءً كانت محلية أو خارجية التي تضرّ بالأمة نفسها. “اجعلوا الأمة الإندونيسية قوية حتى لا تسحقها الأمم الأخرى” وهذا كلمة فخامة الرئيس برابوو سوبيانتو في سيرته الذاتية. وحثّ الرئيس كبار رجال الأعمال الذين حصدوا ثمار الاستقلال بكل ثرواتهم على تقديم التضحيات لخدمة الوطن والدولة. وأكد في خطابه “لا تستغلوا دماء الشعب ولا تسعى وراء الربح من معاناته ولا تصبحوا مصاصي دماء اقتصاديين ولا تكونوا جشعين”.
على جميع النخب ذات النفوذ السياسي نفّذوا تكليفكم الدستوري بكل إخلاص للوطن. تجنّبوا الغطرسة والسلطة السياسية بين أيديكم. تكليف الشعب مجرد أمانة وليس سلطة تُؤتمن. تجنّبوا السلوك السلبية التي تغذّي النفور المتبادل بين أبناء الوطن. حافظوا على الوحدة الإندونيسية بإرادة سياسية للمشاركة لا للسيطرة والهيمنة. لا وحدة حقيقية دون التعاطف والرعاية والمشاركة. اتحدوا لنمنح بعضنا بعضًا لا لنسيطر على بعضنا البعض.
تطبيق الديمقراطية مطلوب بحكمة وتأنٍّ لا على مبدأ من هو القوي ومن هو المنتصر ومن يملك السلطة الأقوى. حقوق الإنسان الأساسية مدعومة بمبدأالإيمان بالله الواحد القدير وإنسانية عادلة ومتحضرة تعيش على أرض إندونيسيا لا نسخًا طبق الأصل من جهات أجنبية حتى باسم حقوق الإنسان العالمية.
علينا أن نبني الوحدة بروح التنوع التي توحد هذا البلد. وأن تكون العدالة الاجتماعية لجميع الشعب التزامًا وخدمة مشتركة لجميع قوى الدولة والأمة. وعلى قوى المجتمع أن تتجنب الأنانية في جميع الشؤون الوطنية وتتجنب الفوضى وتُظهر حسًا حقيقيًا بالاعتدال وتُعطي الأولوية للتسامح وتمتنع عن أن تصبح طفيليات على الوطن.
على جميع النخب والمواطنين إعلاء مصالح الأمة فوق مصالحهم الشخصية ومصالح المحسوبية والأسر الحاكمة. إثبات أن إندونيسيا ملك للجميع بناءً على مبدأ التعاون المتبادل بروح صادقة من الرحمة خالية من التمييز والرغبة في السلطة. تذكروا كلام الرئيس سوكارنو أثناء خطابه في الأول من يونيو عام ١٩٤٥. حيث قال: “إندونيسيا ليست دولةً لشخص واحد وليست دولةً لمجموعةٍ واحدة حتى الأغنياء. بل نؤسس دولةً للجميع فواحدٌ للجميع والجميع لواحد”. هذه هي إندونيسيا الواحدة ملكنا المشترك. إندونيسيا مستقلةٌ حقًا موحدة ذات سيادة وعادلة ومزدهرة. إندونيسيا عظيمةٌ تتمتع بكرامةٍ وتقدمٍ فائقين !
Discussion about this post